البنوك الإسلامية: الإنجاز المعطل

1 مقدمة

إن البنوك المنتمية سواء من حيث تسميتها أو من حيث قوانينها الأساسية إلى "الإسلام" و التي تتخذ منه قاعدة و مبررا لأنشطتها لم تكمل إنجاز مهمتها. لقد أعرب روادها مبكرا عن الوعي بخطر الإضعاف الذي يتهدد بالإنسانية في المدى البعيد (و لو مؤجلا) إذا لم يراعى الجانب الأخلاقي في العملية الإنمائية. فملاحظة السيد "جان لويس دارس" نائب رئيس البنك الدولي:"الأخلاق تنقذ من الفوضى" و إن جاءت عدة سنوات من بعد تؤيدالشعار الذي حملته هذه البنوك، إلا أن هذه الأخيرة , و للأسف، توقفت بمشروعها الأصلي في منتصف الطريق.

إن الانطلاقة المبهرة التي شهدها المشروع1كانت تعد بالإحاطة الواسعة لإمكانيات التطور و مضاعفة عدد المؤسسات المالية كالبنوك الإسلامية المتخصصة في الاستثمار، و التأمينات المتبادلة (تكافل) أو صناديق التوظيف الإسلامية. إلا أن جرأة البنوك الإسلامية أخذت تضمحل تدريجيا فاسحة المجال أمام الممارسات الروتينية.

و في نفس هذه الأثناء، لم تبق منافساتها من البنوك التقليدية مكتوفة الأيدي بل راحت تبدع، مستجيبة وبشكل فوري لما استجد من الوضع، فعمدت إلى إثراء و تكثيف الخدمات المقترحة من خلال إنشائها لشبابيك العمليات الإسلامية، متبنية تقنيات جديدة للادخار و طرق استعماله. فمن بين ما طرحته من خدمات جديدة بديلا للقرض بالفائدة، الذي تقلص حجم أعماله نتيجة للعزوف الملحوظ لعدد متنام من الزبائن عن اللجوء إلى هذا النوع من التمويل.

لقد شكّلت الحواجز التّنظيمية و سياسة رد الفعل المتبعة أهم و ابرز العوامل التّي أعاقت توسع البنوك الإسلامية. و يعود سبب هذه الحواجز أساسا إلى تقيد هذه البنوك بالجانب المالي البحت، و انحصار سوق معاملاتها في الدول الإسلامية أو ذات الأغلبية المسلمة سواء تعلق الأمر باستقطاب الموارد المالية أو إعادة توزيعها وفق متطلبات التمويل. فتكون بذلك قد سلكت نهجا يجعل من الشريعة مجموعة محظورات أكثر منها مبادئ عملية تشجع على اتخاذ المبادرة و تحث عليها.

أن الشريعة ليست مطلقا مجرد نظام آلي للمراقبة، كما سيتبين ذلك لاحقا، بل إنها سلوك و أدب عملي يتعدى الجانب الاقتصادي البحت، إذ يعتبر الإسلام الإطار و الروح في آن واحد للمسعى الحيوي القائم على التأثير المتبادل أكثر منه مجرد ديانة تكتفي بردود الأفعال فقط. بل أن محتواه النظامي في مجال الّـتسيير و الّتنمية، يتيح في كامل الّشفافية و أتم الوضوح أوسع مجالات الإطلاع على أساليب جديدة و أنماط مغايرة للقيام بمختلف الأعمال و إنجازها.

إن المسعى الدّفاعي، الذي يمتاز بطبيعته الحذرة، و المهيأ سلفا لقصر المدى، لا يؤدي إلى إعاقة المساهمة الفعّالة في عملية التّنمية فحسب، بل يؤدي كذلك إلى هجران الزّبائن للمصرف بفعل التّزايد المستمر لمتطلباتهم مع مرور الوقت، على اعتبار أن ميل الكتل النّقدية و الوسائل المالية المتنامي نحو نشاطات يغلب عليها طابع السمسرة على حساب غيرها من قطاعات الإنتاج للسّلع منها أو الخدمات، أضحى من الحقائق التي لا بد لنا من التّسليم بها. فإذا كانت البنوك الإسلامية تراعي الجانب الأخلاقي و توليه الاهتمام المطلوب في سعيها نحو تحقيق الربح، مستندة في ذلك على كل من التعاليم القرآنية من جهة و على الآلة الحاسبة من جهة أخرى، فالملاحظ -و للأمانة-أن استعمال الآلة الحاسبة يتم على أكمل وجه و بكل ما تحتويه من امكانات و قدرات، فالأمر ليس كذلك بالنّسبة للقرآن، على حد تعبير أحد الكتاب الجزائريين.

و مما تؤاخذ عليه البنوك الإسلامية من جهة أخرى، سوء طريقة تواصلها، حيث أنّها تتجه في خطاباتها إلى المؤمنين ذوي الاعتقاد الإسلامي فقط، و لا تبرز أنشطتها و لا توضحها إلا من خلال تجنبها لما هو محظور. أمّا توسعها على المستوى الدّولي خاصة فسيظل لا محال محدودا ما لم تتقدم باقتراح أرضية مشتركة مع الأوساط الغير إسلامية. فالغير المسلم، زبونا كان أم شريكا، لا يعي أفضلية البنك الإسلامي على بنكه التّقليدي كما لا يمكنه إدراك أو استيعاب مدى الإمتيازات التي يوفرها الأول بالنّسبة للثاني.

إذا لم تغير البنوك الإسلامية من موقفها الحالي، القائم عموما على ردود الأفعال و التّطبيقات الرّوتينية، فستتعرض إلى ركود حتمي، بل ، و الأخطر من ذلك ، قد يفضي بها إلى تقهقر مؤكد بفعل عدة عوامل قاعدية، كالشّمولية و تجمع الثّروات و تركيزها المصحوبة بتفاقم الفقر واختلاف مستويات التّطور التكنولوجي و وسائل استعمالاته، بالإضافة إلى ظاهرة عولمة حقوق الإنسان.لقد أفرزت هذه العوامل تحديات و متطلبات جديدة استجابت لها بفاعلية فائقة بنوك ذات شهرة عالمية و العديد من المؤسسات الغربية التي حدّدت لنفسها قواعد حسن التّسيير و المسؤولية الاجتماعية و شرعت في تطبيقها.

فهذا المقال، بمثابة محاولة للإجابة عن التّساؤل الرّامي إلى إبراز المظاهر الفاعلة في إستراتيجية لا تكتفي بالتّصريح العلني عن المعتقد الإسلامي فقط، بل يقترح إضافة دعامة جديدة للإطار الثّلاثي الجوانب الذي ترتكز عليه البنوك الإسلامية، القائم على مبدأ الاشتراك في الرّبح و الخسارة معا، ألا و هي المسؤولية الاجتماعية التي تنطوي على كل من: الاقتصاد (الربح)، البشرو الكون. فالرّبح يعتبر الغاية التي من اجل تحقيقها يتم إنشاء الشركات و المؤسسات الاقتصادية على اختلاف أنواعها، أما فيما يتعلق بالبشر فعلى اعتبار أنّه يتعين على مسير المؤسسة الاقتصادية أن يجعل من الإنسان محور جل اهتماماته، في حين تعبر طريقة تهيئة كوكب الأرض على خصوصية نظرة المؤسسة الإسلامية للمحيط البيئي.

و عليه، فنخلص إلى تكييف فكرة المسؤولية الاجتماعية مع مبادئ الشّريعة الإسلامية. يقوم هذا المفهوم على نظرية التّطور المستديم المكرس من قبل اللجنة الدّولية للبيئة و التّطور سنة 1987و الذي يعرف على أنّه: "تطور يستجيب للحاجيات الآنية دون المخاطرة بإمكانيات و قدرات الأجيال القادمة على توفير حاجياتها لنفسها" مما يشجع على ترقية القيم الخلقية في آن واحد أثناء السّعي نحو تحقيق الرّبح، الأمر الذي يفترض معه الالتزام بمسؤولية ذات ثلاثة أبعاد: البعد الاقتصادي المراد منه الفعاّلية و الإنتاجية، ثم البعد الاجتماعي الرامي إلى احترام كرامة الإنسان، وأخيرا البعد البيئي الهادف إلى احترام البيئة و صيانة المحيط. لقد أصبح الإطار الثلاثي الجوانب السّالف الذّكر قائما منذ قمة ريو دي جانيرو على إستراتيجية المسؤولية الاجتماعية للمؤسسة.فالأجير الذّي ينشط على سبيل المثال في ظروف ملائمة من نوعية تسيير و محيط عمل و أجر، ومن تشجيع على الاستقلالية و على ثقافة المؤسسة، و الإيمان بالقيم المشتركة إلى غير ذلك، سيحسن لا محال من طريقة عمله، الأمر الذي سيسهم في الحد من المخاطر الاجتماعية الناجمة عن علاقات العمل بل و القضاء عليها كلية.

 

2 تذكير وجيز بالتّحديات التي تواجه البنوك الإسلامية

لم تكن مهمة رواد فكرة البنك الإسلامي سهلة التحقيق، خصوصا و أن الحكومات و البنوك المركزية و غيرها من السلطات المالية في الدول الإسلامية أو ذات الأغلبية المسلمة بدت مترددة إزاء فكرة بنك بدون فائدة. فتشريعات معظم هذه الدول، كانت و لا تزال، في صالح البنوك التقليدية التي استأثرت بتمويل النشاطات الاقتصادية في مجملها، مع أنه على مستوى الاقتصاد الكلي، نفع البنوك الإسلامية للدول مقارنة بالبنوك التقليدية أمر بديهي باعتبار أن التمويل الإسلامي يقوم على عملية تجارية أو دورة فعلية لإنتاج السلع و الخدمات توافقها دورة مالية ،آما التمويل في البنوك التقليدية فهو ذو مفعول تضخمي إذ لا يغدو عن كونه مجرد عملية قيد حسابي ليس إلا، فيعتبر، وهو بهذه الصفة، إلى جانب الفائدة المضافة لمبلغ القرض بمثابة إصدارات جديدة للعملة، مما يؤدي إلى زيادة حجم الكتلة النقدية المتداولة، في حين أن امتيازات التنظيمات التقليدية لا تخدم البنوك الإسلامية ، ففي مجال السياسة النقدية و القرض على سبيل المثال لم يكن اللجوء إلى إعادة التمويل من طرف البنك المركزي أو السوق النقدية أو وفق نظام القروض فيما بين البنوك التجارية متاحا أمام البنك الإسلامي لتضمنه على معدل الفائدة. لقد عمدت القوانين الوطنية في الأصل إلى توزيع وظائفي للمؤسسات المالية التقليدية عازلة وظيفة الإيداع بشقيه، تحت الطلب و لأجل (البنوك التجارية التقليدية و صناديق أو جمعيات الادخار أو القروض) عن وظيفة الادخار الإتفاقي (شركات التأمين و صناديق التقاعد) و هذه و تلك عن وظيفة الاستثمار(صناديق التعاون و بنوك الأعمال) مع رفضها للجمع بينها أو بين البعض منها. إلا أن عمليات الإتحاد و شمولية الأسواق و ما يتبعها من مخلفات الدمج و زوال نظام التخصص و العولمة فرضت أكثر فأكثر البنك الشامل المتضمن لكل هذه الوظائف و غيرها فاسحة مجال المنافسة بين البنوك و المؤسسات المالية التقليدية. أما الدول الإسلامية، فلم تواكب عموما هذا التطور إذ احتفظت إجمالا بنفس التنظيمات القانونية المعمول بها لمدة عقود طويلة. فعلى البنك الإسلامي الفعال أن يجعل إذن من إنتاج القيمة المضافة، حاله في ذلك حال غيره من المؤسسات الاقتصادية، من أهم ميوله، فيكون بذلك مطالب بالحفاظ على استقراره المالي وفق معيار الناتج المحاسبي.

وبهذا يكون قد ركز المبادرون فكرتهم على الفرق التقني الجوهري الذي يميز البنك الاسلامي عن غيره من البنوك الغير إسلامية و المتمثل في تجنب طرق التمويل المحظورة (فوائد البنك التقليدي) و النشاطات المحرمة فالمدى القصير يكون قد طغى على المدى الطويل كما حجب الجانب المالي غيره من الجوانب، خاصة الاجتماعية منها و البيئية، لمختلف الأنشطة الاستثمارية المدعمة.

إن التوسع المبهر للبنوك الإسلامية في الدول العربية الذي بدا واضحا منذ أواسط السبعينيات وامتد إلى غاية التسعينيات، أدى إلى ظهور فئة جديدة من الزبائن المهمشة إلى غاية تلك الفترة و ذلك بفضل استجابتها لحاجيات خلقية و اجتماعية و اقتصادية ملحة.

لقد لقيت فكرة البنك الإسلامي ترحيبا و دعما تلقائيين من طرف الملتزمين من المسلمين، سواء أكانوا مودعين أو مقترضين راغبين في الحصول على التمويل الملائم، نظرا لامتناعهم من التعامل مع البنوك التقليدية خشية منهم من الوقوع في الربا.

فعلى الرغم من التحديات الاقتصادية و السياسية و الإدارية، إلا أن المؤسسات الإسلامية غالبا ما كانت أكثر نشاطا وإبداعا في العديد من الدول2. و مع ذلك و في الوقت الذي كانت فيه كل المؤشرات تنبؤ بنمو فائق للمصارف الإسلامية، إلا أن احتياطاتها و رؤوس أموالها أخذت في الركود أولا منذ منتصف التسعينيات تمهيدا لبداية تراجع تواصل إلى غاية بلوغه الحدود القاعدية للأسواق التي اعتبرت حكرا عليها، هذا من جهة، ومن جهة أخرى بفعل انتهاجها لسياسة تقوم على رد الفعل و الحذر المفرط.

مما لا شك فيه أن البنوك الإسلامية أدت إلى إبراز نشاط مذهبي نظري و عملي مكثف، و إلى جلب الادخار واستعماله في العمليات التجارية و المشاريع الاجتماعية و الاقتصادية. كما نجحت في اجتذاب أموال الزكاة متعهدة باستعمالها وفقا للشريعة السمحة فضلا عن مزاولتها لنشاطات تضامنية خيرية المجسدة في تقديم تمويلات لأشخاص و جماعات محرومة و مقصاة بفعل ظروف السوق.

لقد أعادت كذلك بعث الفقه الإسلامي و نظرية العقود من جديد بعرضها لخدمات مالية قائمة على أساس الوساطة في عملية الشراء و البيع لأجل (المرابحة) المشاركة، المضاربة و الإيجار المنتهى بالتمليك أو بدونه (الإجارة) و عقد الاستصناع إلى آخره. لقد أحدثت البنوك الإسلامية ثورة على الممارسات التقليدية في مجال الهندسة المالية مدعمة بتطلعات خلقية تمنع التعاطي بالفوائد الثابتة و المحددة سلفا، ومشجعة لمبدأ الغنم بالغرم الذي يفترض فيه التوزيع المنصف لتبعات المخاطرة و الأرباح فضلا عن الاشتراك في المسؤوليات.

و في موازاة ذلك،تم إنشاء صناديق إسلامية ووضع مؤشرات للبورصة كمؤشر داو جونز للأسواق الإسلامية إلى جانب خدمات التنقيط. فاستعادت الوسائل النقدية وظيفتها الطبيعية، باعتبارها أدوات تثمين و مقايضة، بعيدة عن أي نوع من أنواع المضاربة.

فمن الطبيعي أن تثير إذن اهتمام الدول الغير إسلامية ، إذ أدى إنشاءها إلى تحريك غريب غير مسبق للنشاط الفكري في كل من أوروبا و أمريكا. فمنذ نحو عشر سنين، نقلت أسبوعية"المسلمون"3أ ن المؤتمرات و المنتديات المنظمة من قبل البنوك الإسلامية أصبحت تشهد اكتساحا متزايدا من طرف الأجانب بفعل اهتمامهم المتنامي لها، إذ سجلت الملتقيات العشر المنظمة خلال سنة 1994 حضور مشاهير الأكاديميين و المصرفيين المحترفين قصد الإنصات والتعرف إلى البنك الإسلامي، كما وضعت جامعات أوروبية وأمريكية، منها مدرسة الاقتصاد اللندنية و جامعة لوبوروغ بالمملكة المتحدة و كلية الحقوق و الاقتصاد برايس أنظمة جديدة لتدريس الاقتصاد و القانون الإسلاميين إلى جانب جامعة هارفارد التي رصدت لبحث هذه المواضيع ميزانية قدرها نصف مليون دولار أمريكي .

و عليه فتعرضت البنوك الإسلامية منذ الوهلة الأولى إلى منافسة شرسة، تمثلت على وجه الخصوص في إعادة البنوك التقليدية لتوجيه أنشطتها جزئيا، حيث أثارت وفرة السيولة المتاحة لدى هذه السوق الجديدة انتباهها، فسعت إلى استعادة مدخراتها مجددا، خاصة وسط ازدهار أسعار النفط خلال السبعينيات.فالبنوك التقليدية التي تعمل منذ القرون الوسطى على أساس الفوائد البنكية وجدت نفسها ملزمة على فتح شبابيك و حسابات إسلامية لا تتعامل بالفائدة قصد اجتذاب مدخرات المسلمين موفرة على نفسها في ذات الوقت عبء تكلفة الفوائد التي يمتنع المسلمون عن أخذها، إذ أصبحنا نلحظ انتشار واسع للشبابيك الإسلامية و الوكالات المتخصصة و المديريات الصرفية الإسلامية داخل البنوك التقليدية نفسها التي عمدت إلى تشكيل مجالس استشارية في الشريعة الإسلامية. فبنوك مثل تشيز مانهاتن بنك، مورغان ستانلي بنك، سيتي بنك، كلانوورث بنسنن، إينو سويس، غولدمن ساخ، HSBC درسدنر بنك، إتحاد البنوك السويسرية، البنك الوطني لباريس و سوسييتي جنرال كلها بنوك تمارس العمليات المصرفية الإسلامية بكل ما يحمله هذا الوصف من معنى. فهذا الاهتمام و إن شهد نوع من التدني، إلا أنه لا يزال يعتبر من رهائن المواضيع، و لعل نية البنك العمومي الياباني للتعاون الدولي (JBIC) في طرح أولى الصكوك بالتعاون مع البنك المركزي لدولة ماليزيا من الأمثلة الحية على ذلك. فحسب ما نقلته صحيفة الفايننشال تايمز ليوم الجمعة 18 أوت 2006 فقد شكل البنك المذكور لجنة متخصصة في القانون الإسلامي و يطمح إلى تحقيق ما حجمه ما بين 300 و500 مليون دولار.

لقد أرست هيئات أمثال الممول الرئيسي لدليل داو جونز العام و مجمع سام (SAM) الرائد في مجال الاستثمار الدائم يوم 23 جانفي 2006 أول دليل في العالم يربط بين مبادئ الاستثمار الإسلامي و معايير الاستمرارية، منسقة بين المنهجية المرسخة لمؤشرات داو جونز للسوق الإسلامي ودلائل داو جونز للديمومة والاستمرارية. فدليل داو جونز لاستمرارية السوق الإسلامي يمثل المؤسسات المنسجمة مع المبادئ الإسلامية للاستثمار والتي تعتبر في الوقت ذاته قائدة رتل المؤسسات الدائمة. إن إدراج هذه الشركات ضمن الدليل مشروط بانخراطها المسبق في كل من مؤشر داو جونز للسوق الإسلامي و دليل داو جونز العالمي للاستمرارية و الذي يحتوي حاليا على 105 شركة مهيأة للمستثمرين الراغبين في تطبيق كل من المعايير الإسلامية و معايير الاستمرارية و التي تعرف بالدرجات الراقية (Best class).

3 المبادئ و التقنيات القانونية المطبقة من طرف البنوك الإسلامية

3-1 حول مبدأ الربح المشروع:

الإسلام على العكس من غيره من الأديان، يحل النشاط التجاري و الكسب الناتج عنه4. كان الرسول صلى الله عليه و سلم، و زوجته السيدة خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها و الكثير من الصحابة الكرام من كبار تجار قومهم. إن السعي وراء الكسب المشروع في إطار الشريعة الإسلامية محكم الاندماج في أخلاقيات البنوك الإسلامية. و على سبيل المقارنة، لا يمكن للتاجر أن ينال رضا الله حسب مرسوم غراتين إلا ببالغ الصعوبة5حيث كانت المسيحية في أول عهدها تحتقر المال و تزدري من الغنى، بينما ترقي الفقر و الفاقة إلى درجة المثالية6، معتبرة التجارة مجرد وسيلة لإشباع روح الطمع و الجشع. لذا أيد ماكس فيبر فكرة توطيد العلاقة المتبادلة بين أخلاقيات إصلاح المذهب البروتستانتي و مبادئ الرأسمالية7، معتبرا النجاح في مجال الأعمال بمثابة إتباع خطى الانجاز الإلهي8. فوضعت هذه النظرية حدا نهائيا لمثالية الفقر و الحرمان المبجلة من قبل المسيحية في أولى أزمانها9، بل و بلغ بها الحد إلى التلاعب بنصوص الإنجيل قصد تبرير فوائد القروض10.

 3-2  حول مبدأ حرية المبادرة:

حرية إبرام الصفقات مكفولة من قبل النظام الإسلامي11، إذ تجد الحرية التعاقدية كمبدأ سندا لها في العديد من النصوص القرآنية12و السنة النبوية13. يقول ابن القيم الجوزية في هذا الصدد ببطلان العبادات مع انعدام النص الآمر لها، على العكس من المعاملات التي يعد الأصل فيها الإباحية ما لم يوجد نص صريح يقضي بتحريمها14. فبناءا على مبدأ حرية المبادرة كل ما أسس على الإرادة و التوافق، في مجال العلاقات التعاقدية، يعد سليما باستثناء ما حدد بنص15.

إن مبدأ الحرية التعاقدية في الإطار المعياري للشريعة الإسلامية يسمح بتخطي المواقف السلبية و المبنية على ردود الأفعال، بل أنه يؤسس و يبرر العمل الايجابي المنتج للثروات شريطة احتوائه للأخلاقيات التعاقدية للإسلام.

3-3 حول مبادئ عدالة و توازن المصالح:

إن الشريعة، و حرصا منها على توسيع قانون الأعمال و تمديده، لا تقتصر على منع القروض ذات الفوائد المسبقة التحديد و تشجيع الفعل الخيري للقرض الحسن و الصدقة، إنها تمنع كذلك اكتناز الأموال16، بل و تحث على استعمالها مع تقاسم الأرباح والرضا بتقاسم تبعات المخاطرة. إن تحريمها للاحتكار يستتبع حرية السوق وتنظيم سياسي ينبذ الرشوة و كل ما يقوم على التحزيبية والمحاباة. لقد طور الفقه نظرية العقود الرامية إلى إزالة الشكوك و الملابسات التي قد تخل بالتزامات المتعاقدين بفعل ما قد يشوبها من عدم الوضوح و الغرر17، مؤكدا على ضرورة احترام العهود و مفهوم توازن الخدمات المزجاة مع وجوب رعاية و مساندة الطرف الضعيف في العقد، إلى جانب تأكيده على ضرورة التصدي للتعسف في استعمال الحق، للإثراء بدون سبب، والتعويض عن الضرر الملحق بالغير18.

 

3-4 التقنيات القانونية

يكتسي السند القانوني لأنشطة البنوك الإسلامية أشكالا عديدة تكفل الفقه بتعريفها و توضيحها. إذ تولي الشريعة مراعاة كبيرة للتعهد التعاقدي، معتبرة إياه من ضمن التصرفات الملزمة لأصحابها، مؤكدة على ضرورة التقيد بما تضمنه من بنود طبقا للتكليف الذي نص عليه القرآن الكريم:(5 /1) "يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود". إذا كانت فئة القروض الممنوحة من طرف البنوك التقليدية مضمونة الأداء على اعتبار أن التبعات، المخاطر و المصاريف المرتبطة بها لا تقع إلا على عاتق المقترض وحده، فإن البنك الإسلامي لا يقرض بقصد الاشتغال فقط،19حيث أن تدخله منوط بالتطابق مع أحكام الشريعة، لكل من المشاريع المستهدفة، وطرق تمويلها المرتبطة أساسا بممتلكات مادية و المصاغة في عقود تنصب على نفس الممتلكات. فشخصية المتعاقد تطبع العقد، الذي غالبا ما يطغى عليه الجانب النفساني و يميزه20، و المنصب عموما على مجالات مقايضات الأموال (أو ما يعرف بالبيوع) أو المنافع أو كليهما معا، على الجمعيات و الشركات و على الأعمال الخيرية.

إن البنك الإسلامي يشترك، يبيع أو يؤجر21باعتماده على الضمانات المرتبطة بالأموال محل العقد و المتصلة بها22، متحملا بذلك تبعات المخاطرة23. أما أهم التقنيات القانونية المنتهجة24فهي الإجارة، الإجارة و الاقتناء، المشاركة أو المضاربة، بيع السلم و أخيرا تقنيتي كل من المرابحة و الاستصناع اللتين يمكن الدمج بينهما25.

إن مختلف هذه الأنماط تجعل من البنك الإسلامي- باعتبار أن نقل ملكية هذه الأموال تتناوله القوانين الحكومية كالقانون التجاري و الجبائي و غيرهما- عرضة لمخاطر لم يعتد البنك التقليدي على الخوض فيها. إذ لا يمكن للبنك الإسلامي في حال فسخ العقد تحميل المستعمل الخسارة المحتملة إلا بإثباته لصدور خطأ عن هذا الأخير26، في حين أنه بإمكان البنك التقليدي التضرع بالتأخر اليسير أو التخلف عن الدفع لفرض سقوط الأجل مع ما يتطلبه من أداء مسبق و إن لم يكن للزبون المقترض أدنى مسؤولية في وقوع الحادث المتسبب في ذلك التأخير27.

 

4 تقييم نقدي للمنهج الأصلي

بينما كان في نظر باعثي المشروع أن البنك الإسلامي يرمي إلى ترقية نظام اقتصادي جديد يجسد قيم الرسالة الإسلامية على حد تعبير أحد المؤلفين الشيعة28، أو نهضة الأمة الإسلامية المراعية لتجنب المحظورات حسب رأي أحد المؤلفين السنة29، إلا أن المنهجية الأصلية تمركزت حول منظور مقارن و تشبيهي من ناحيتين اثنتين:

 

لقد وضع إنجاز المشروع منذ البداية، أولا قياسا بالبنوك الكلاسيكية بغية التميز عنها، بتفاديه للممارسات الممنوعة، و ثانيتا سعى أصحاب المشروع إلى إعادة إحياء فقه العقود الخاص بالمؤسسات المالية للعهد الإسلامي الأول. إلا أنه بمثل هذا التوجه، أصبح البنك الإسلامي مجرد صورة لماض قد ولى، و نسخة مطابقة لغيره (أي البنوك الغربية التقليدية) بأخذ النماذج فأصبح بمثابة القائم مقام البنك التجاري الكلاسيكي. إن اللجوء إلى خبراء الأوساط المصرفية التقليدية العرفية، في البحث عن توظيف مسيري و إطارات البنك و كان ذلك مخرجا لا مفر منه أمام الانعدام التام للخبرات المصرفية الإسلامية، و كل ذلك جعل من تقنيي البنك لا يتخذون من النهج النظري لباعثي المشروع إلا ما يميزه عن البنك الكلاسيكي بحكم معرفتهم الجيدة له، واعتباره النموذج الواجب تفاديه.

و عليه، فبدلا من أن يمتاز البنك بخصوصيات ينفرد بها، أصبح مجرد مؤسسة لا تتعدى الأصناف الثقافية و السياسية لمثيلاتها الكلاسيكية، مع شيء من الإسلامية البادية من خلال استعمال نماذج من عقود الفقه، إلى جانب تلك التي لا تتصادم و قواعد الشريعة الإسلامية من العقود الحديثة.سيكون لمثل هذا النهج لا محال، عواقب على السياسات العملية بفعل اقتصارها على الجانب المالي، و على أثره و مخاطره، دون سواه من الجوانب. فهذه الخاصية أصبحت إذن، هي الوحيدة التي تميز البنك الإسلامي عن غيره من البنوك الكلاسيكية.

فالتحدي الهام يكمن في بروز مؤسسة إسلامية، لا تكتفي بأن تكون مجرد صورة طبق الأصل، لا للمؤسسة الغربية و لا لتلك التي تتبع العادات و التقاليد بطريقة آلية، مع الحرص على إحاطة هذا التحدي بتعاليم الشريعة.

لا يعتبر البنك الإسلامي، مجرد مؤسسة كلاسيكية أو بنك أعمال، يعتمد العقود المستوحاة من الفقه حتى يخص العمليات التي يقوم بها بميزة معينة لا تنطبق على ما عداها من المؤسسات فحسب، كما أنه لا يكتسي صبغة مالية محضة. بل يجب أن يراعي في تدخلاته، عواقب التمويلات التي يوفرها على كل من المجتمع30و المحيط. إن نظام القيم لديه لا يقتصر و لا يمكن اختصاره في الوساطة بين الموارد المالية و الأهداف المشروعة31، بل إنه يدعو إلى تجديد المفاهيم. لقد كتب الإمام محمود شلتوت، المتوفى سنة 1964، بأن الثبات على آراء السلف و الاكتفاء بعلمهم و معارفهم، و بأنظمة البحث و الاستقصاء لديهم، يعد جرما في حق الطبيعة الإنسانية، و يحرم الإنسان من هبة العقل التي تميزه32.

 

 

5 الإطار المعياري لأنشطة البنوك الإسلامية

يستند الإطار المعياري للبنوك الإسلامية أثناء سعيها نحو تحقيق الربح المشروع، على ضرورة احترام الإنسان، دون أدنى تمييز مهما كانت طبيعته، وغيره من الكائنات المنتمية إلى عالم الحيوانات أو النباتات، فضلا عن احترامه للمحيط البيئي. إن مراعاة الأبعاد الكونية و الشمولية للإسلام، و التي مفادها امتداد المعارف الشخصية للفرد، إلى الجماعة التي ينطوي تحتها المكرسة لعلاقة الخالق بالمخلوق، كفيل بأن يمكن من رفع هذا التحدي، مبرزا للوجود الإلهي في مختلف أوجهه.

إن التمييز بين المسؤولية تجاه الفرد و المسؤولية نحو كوكب الأرض، لا يتعدى عن كونه ذو صبغة دلالية ليس إلا. فعدد الضحايا التي خلفته خلال ساعات قليلة، كارثة بوبال بالهند، بطابعها الإيكولوجي جوهريا،و الذي يفوق عدد ضحايا الهجوم الذي استهدف برجي مركز التجارة العالمي بعشر مرات، جدير بأن يوضح مدى الترابط الحاصل بين المسؤوليتين و نقاط الاشتراك في بعض أوجههما.

من جهة أخرى، فهذا الإطار المعياري - الخاص بالبنوك الإسلامية- لا ينفي غيره من المعايير التي لا تناقضه.  فالبنك، بحكم إقامته داخل حدود الدول، حيث تسري عليه أنظمتها القضائية، و من ثمة معايير قواعدها القانونية الآمرة، ملزم على الامتثال لأحكام نصوصها حتى يتسنى له مزاولة نشاطه داخل ترابها.

كما لا يمكن للبنوك الإسلامية أن تكتفي بإستراتجيتها الجمودية المبنية على ترك المحرمات، و لا بمراعاة الآداب فيما تقبل عليه من أعمال، كتخصيصها لمنح دراسية للطلبة، أو توزيع مداخيل أموال الزكاة حتى تبرز انتماءها الأخلاقي. بل ليس هناك ما يمنع من أن تستعمل البنوك الإسلامية، الاتفاقيات الدولية التي تخصها، كدعامة تستند إليها في تركيز هذا الإطار المعياري و كعنصر إضافي تدعم به توجهها، ما دامت القوانين الإنسانية التي تكرسها مثل هذه الاتفاقيات، لا تتعارض و أحكام الشريعة السمحة، و التي تتطرق في مجملها لحماية الطبيعة و الحرص على التنوع البيئي، محاربة الرشوة وما شابهها من أصناف الفساد المتفشية، و مكافحة الجريمة المنظمة و ما إلى ذلك من مختلف الآفات المتفاقمة. فبإمكان البنوك الإسلامية أن تصنف هذه الاتفاقيات إلى أصناف ثلاثة، منها تلك الخاصة بحماية مجموع الكائنات الحية و على رأسها الذات البشرية أولا، ثم التي تنصب منها على رعاية المحيط البيئي ثانيا، في حين تدرج تلك المهتمة بحماية الدائرة الاقتصادية مما يكتنفها من شتى أنواع الجرم، كانعدام الشفافية و اعتماد اللبس و الغموض و الممارسات الإجرامية في تسيير الأعمال، ضمن الصنف الأخير.

إن مثل هذا الامتداد و التوسع، لرقعة الإطار المعياري للبنوك الإسلامية، يعد استجابة لضمان البقاء و ضرورة الاستمرارية. إذا رغبت البنوك الإسلامية الاستفادة من السوق المالية العصرية، التي تدعو لمن يجتذبها، بالنظر إلى ما أصبح يبديه المستثمرون النظاميون كمختلف صناديق التقاعد و المعاشات من وعي و تحسس تجاه التوظيف الأخلاقي للأموال لها أو لفائدة شركائها، فلا مناص لها من أن تتقدم بطرح واف جامع ملموس و بناء، يبرز مدى ترابط أخلاقياتها بالاحتياجات المعبر عنها. طرح يأخذ بعين الاعتبار البعد الأزلي للإنماء الدائم، الذي يمكن بواسطته هدم و إزالة النماذج الاقتصادية للإنتاج التوزيع و الاستهلاك، القائمة على المتاجرة بالعالم و كل ما يتضمنه، بما في ذلك الأمور و المسائل الغير قابلة للمتاجرة، و الركون لطعم المنفعة و الربح الممتد إلى الجوانب الغير تجارية من الحياة، نماذج أسهمت في انشقاق و تدهور العلاقة التي تربط البشرية بكوكبها الأرضي. يتضمن هدف البنوك الإسلامية الالتزام بالدعوة و بالمثالية. فهي ملزمة بالعمل بوصية الرسول صلى الله عليه و سلم، في مخاطبة الناس بما يفقهون. إذ بات من المعروف أن موضوع حقوق الإنسان يكتسي أهمية قصوى في الخطاب المعاصر. كما أنه من المعروف أيضا أن غالبية التركيبة الحالية لما يعرف بحقوق الإنسان لم تأت إلا لتؤكد ما كرسته الشريعة الإسلامية منذ أكثر من 14 قرنا. إذ من الخطأ بما كان اعتبار حقوق الإنسان ابتكارا مسيحيا أو غربيا محضا، بل حري أن نعتبره تراكما لقواعد منبثقة من حضارات أبلغ -فيها الإسلامية- التي توصل الغرب إلى تلخيصها و صياغتها.

فالمعتقد السائد في الغرب هو أن المسلمين في حاجة إلى الإطلاع الكلي على حقوق الإنسان التي نشأت منذ الماغما كارتا (MAGMA CARTA) و التعرف عليها، و هو الميثاق الملكي للحقوق السياسية الممنوحة من قبل ملك بريطانيا العظمى "جون" لصالح بارونات إنجلترا المتمردين خلال القرن الثالث عشر. إلا أن مثل هذا المعتقد يعد نكرانا لتراث الفضائل الإسلامية و جحود لها.فماذا عن حلف الفضول مثلا، الذي سبقت نشأته الماغما كارتا بنحو سبعة قرون، المبرم سنة590م بين عدد من عشائر قبيلة قريش، التي تعهدت بموجبه أمام الله، على أن تكون يدا واحدة مع المظلوم، سواء أكان من أهل مكة و غيرهم من سائر القبائل، على من ظلمه حتى ترد عليه مظلمته، مع المراعاة للمساواة التامة بين الجميع مهما كانت وضعيتهم الاقتصادية. فقال الرسول صلى الله عليه و سلم بشأنه: " لقد شهدت في دار عبد الله بن جعدان حلفا ما أحب أن لي به حمر العين، ولو أدعى به في الإسلام لأجبت". و هذا حديث الرسول (ص)الداعي إلى وجوب نصرة المسلم لأخيه المسلم ظالما أو مظلوما، موضحا مع ذلك في رده على استفسار أحد الصحابة الكرام إلى أن نصرة الظالم تتم بكفه عن ظلمه، و الذي أرسى بمقتضاه الدعامة العصرية لمجمل فلسفة منظمات حقوق الإنسان الغير حكومية. كما شهدت الديار الإسلامية إلى جانب ذلك، تطبيق القوانين الإنسانية قبل أن تعرف لها أوربا أي وجود. و كذلك الحال بالنسبة للهلال الأخضر للصحراء، أو ما عرف بالخلاوية المشكلة من المتطوعين البدو المنتشرين في أنحاء الجزيرة العربية و القائمين على معالجة جرحى الحروب القبلية بدون أي تمييز أو تفريق بينهم، في وقت لم تكن حتى مجرد فكرة الصليب الأحمر الدولي قد خطرت على بال33. فلنقل بكل بساطة، أنه على كل مسلم، بإيعاز من القرآن الكريم34، أن يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر بدون أن يحتاج إلى أي ترخيص لذلك و بدون اللجوء إلى استعمال العنف. إن إدانة انتهاكات حقوق الإنسان مسألة ملازمة للإسلام ذاته، لا تخص نخبة معينة بل تعد من واجبات كل مسلم. و بما أن الأمر على هذا النحو، فإنه لا يمكن اعتبار تبني القوانين الإنسانية التي لا تتعارض مع ما هو معروف من الدين بالضرورة بدعة بأي حال من الأحوال. 

فيتعين على البنوك الإسلامية إذن، ألا تكتفي بالامتثال للقوانين الوضعية للدول التي تزاول نشاطها بداخلها، بل يجب عليها كذلك أن تدرج ضمن قواعدها القانونية، المعايير و الضوابط ذات التطابق مع قواعد الشريعة و المنسجمة معها، و التي يمكن استخلاصها من مجموع الاتفاقيات الدولية المتوفرة. يحيلنا هذا التلميح، من غير أن يستثني التصنيف الموالي الترابط و التأثير المتبادل لمختلف هذه الفئات، إلى:  

في الميدان الاقتصادي المحض: الاتفاقيات الدولية لهيأة الأمم المتحدة المتعلقة بمحاربة الرشوة و مكافحة الجريمة المنظمة، و كذا القواعد الخاصة بالعدالة التجارية و التصدي لمختلف أوجه الاحتكار، إلى جانب القوانين الداخلية للدول المتضمنة للنظام الجبائي و غيرها من التشريعات الملزمة.

في ميدان القوانين الإنسانية: ميثاق حقوق الإنسان المشتمل على الإعلان العامي لحقوق الإنسان و المعاهدتين المتعلقتين على التوالي بالحقوق المدنية و السياسية و بالحقوق الاقتصادية الاجتماعية و الثقافية والتي يجب أن تلحق بها اتفاقيات المنظمة العالمية للشغل.

أما في المجال البيئي: خطة جوهانسبورغ، إعلان ريو، و إلى الاتفاقية الدولية للأمم المتحدة حول التنوع البيئي إلى غير ذلك.

فبعبارة أوسع و بمعنى اشمل، حري بهذه البنوك أن تتخطى التزامها بالقواعد الإجبارية بأن تأخذ على عاتقها، و بصفة إرادية، تبني و تطبيق استراتيجيات فعالة و سياسات تقدمية و كافة السبلالمؤدية إلى تطبيق مقاصد الشريعة

.

5-1 تذكير بالإطار المعياري الإسلامي:

5-1-1 المسؤولية نحو الإنسان

سواء اعتبر المسلم صفة "خليفة في الأرض" على أنها استمرارية البشرية، أو القوة الكامنة التي يمارس بواسطتها مختلف التأثيرات على الأرض، و التي يعرفها بعض الفقهاء ب "خليفة الله"، في إشارة إلى الصنف البشري عامة و إلى المسلم خاصة، فإن هذا المقام الذي أنزل إياه الإنسان و هذه المنزلة التي خصه بها الإسلام، و التي تقررت من قبل الخالق جل في علاه حتى قبل نشأة سيدنا آدم عليه السلام35، تعد بمثابة ترخيص صريح و دعوة واضحة للاجتهاد الجاد و السعي الحثيث نحو القيام بكل مبادرة حميدة و عمل بناء من شأنهما تحقيق الرقي و الازدهار لبلوغ الغاية المرجوة و الهدف المنشود المتمثل في إعمار الأرض. 

يحيط الإسلام عزة الإنسان و كرامته، ببالغ الأهمية و يمنحهما أسمى المعاني و أبلغها قوة، على اعتبار أنه الوحيد من بين سائر المخلوقات الذي قبل حمل الأمانة التي وهبه إياها الله سبحانه و تعالى36، مما يؤهله بأن يحاط بوافر التقدير و أجل الاحترام، فهو صاحب السلطان يمارسه بمطلق السيادة لما أوتي من بالغ الحكمة و قوة الإدراك اللتين يمتاز بهما عن باقي المخلوقات37. فعلى الرغم من أنه قد يصدر من الإنسان ما يسقط عنه هذه الجدارة و هذا الاستحقاق، إلا أن الله يقول في محكم التنزيل: "لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم"38لما لديه من القدرات العقلية و الإمكانات الفكرية التي تؤهله إلى التمييز بين الخطأ و الصواب، و ترشيد سلوكياته و تقويمها بالإقبال على محاسن الأعمال و ترك ما يشينها، فضلا عن تطلعه إلى أبعد من مدى الحياة. فبالنظر إلى الوديعة المتمثلة في قابلية الإنسان على أن يكون خليفة في الأرض، لا بد من جعل احترام و تقدير إنسانية كافة البشر دون استثناء و لا تمييز، غاية في حد ذاتها.

يمكننا القول منطقيا، بأن مقاصد الشريعة الخمسة39المتفق عليها من قبل غالبية المجتمع الإسلامي،ألا و هي حماية الدين و الحياة و الفكر و النسل و الملكية، تصب جميعها أساسا في صالح الإنسان و لفائدته، إذ يشكل تدهور العلاقات الاجتماعية خطرا يهدد كيان المجتمع و بالتالي فكره، روحه و دينه في آن واحد. 

كما يمكننا ذكر العديد من الآيات القرآنية المتعلقة بجملة من الحقوق الخاصة بالإنسان منها، قداسة الحياة40 مصداقا لقوله تعالى": و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق" (سورة الأنعام آية 151)، و قيام حياة الفرد بمقام حياة الإنسانية جمعاء41 إذ يقول عز من قائل: "من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأمنا قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا" (سورة المائدة آية (32) و كذا أحقية الكائن البشري في الكرامة و الاحترام42: "و لقد كرمنا بني آدم " (سورة الإسراء آية 70) بالإضافة إلى وجوب إحقاق الحق و القضاء بالعدل43 وفقا لتعاليم النصوص القرآنية (المائدة 32).

ينبغي على البنك الإسلامي، حتى يتسنى له الاستجابة لكافة الالتزامات السالفة الذكر، أن يتبنى نظرية الأطراف المعنية، و المتأثرة بطريقة أو بأخرى في مجال نفوذها، بأنشطة البنك و قراراته، أي كان الموقع الذي تحتله هذه الأطراف، داخل البنك أو خارجه، كما يتعين عليه كذلك أن يبرر الرخصة التي يحملها في التصرف باسم المسلمين و يثبت جدارته في ذلك، و أن يسهم بفضل سلوكياته في إرساء و عدم الانسجام الروحي للأمة الإسلامية قاطبة’

.

5-1-2 مسؤولية تجاه الأرض

إن المسؤولية نحو الأرض، ناتجة عن كون الإنسان صاحب انتداب و تفويض في تسيير التراث البشري لصالحه، و الذي يمتلك حق الانتفاع به فقط،، على اعتبار أنه حارسا للأموال التي خلقت من أجل البشرية جمعاء بما فيها الأجيال القادمة، و ليس مالكا لها. فثمة إذن التزام بحسن التسيير و الإدارة المشتمل أيضا على الحرص على سلامة و صيانة هذا التراث و وقايته من كل ما من شأنه أن يلحق به أي ضرر أو تلف، و العمل على تنميته و استثماره44. لقد أولى الإسلام بالغ الأهمية إلى نوعية و طهارة الأرض و صفاء نقاءها45، و كذا إلى مفهوم ديمومتها باحتوائه على العديد من القواعد التي تدعو إلى الحرص على صيانة هذه الديمومة و الحث على سلامتها، والتي من أبرزها حديث الرسول صلى الله عليه و سلم المشهور: "إذا كانت بيد أحدكم فسيلة و استطاع أن يغرسها قبل أن تقوم الساعة فليغرسها".

إن للمحيط البيئي قيمة مشتقة من عطي الله عز وجل، إذ يلحق تدهوره أضرار جسيمة بكل من الحياة و الممتلكات و حتى الدين، و يعرضها إلى أخطار أكيدة46. فما من شيء موجود في الأرض و لا في السماوات إلا و هو معد كأمانة مودعة لدى البشرية و كعطاء من الله سبحانه و تعالى، وضع تحت تصرف الإنسانية و سخر من أجلها، تستغله بغية تحقيق الإعمار عن طريق نشر الرقي و التطور و الازدهار، مع توخي الاعتدال في استعمالها، و استغلالها بمقادير موزونة تفاديا لكل إسراف أو تعسف47

لقد أشارت العديد من الآيات القرآنية في مواضيع شتى إلى قضية التسخير التي خص بها الإنسان دون غيره من باقي الكائنات، نذكر من بينها على سبيل المثال سورتان من القرآن الكريم : "و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه" (45/13)48 و "ألم تروا أن الله  سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض و أسبغ عليكم نعمه ظاهرة و باطنة" (31/20), أنظر أبيضا المرجع.49 

إن الأمانة التي حملها الإنسان، بعد أن أبت حملها السماوات و الأرض و الجبال، تضع على عاتقه مسؤولية احترام التكليف المنوط به. فالمهمة المسندة إليه في تنظيم الأرض بما احتوته، و تسييرها، تمنحه إمكانية الانتفاع بخيراتها و التمتع بجمالها و التأمل بخالص الورع و كل التفاني في إبداعاتها. كما أن إدراكه بمختلف وظائف الماء من مصدر حياة: "وجعلنا من الماء كل شيء حي" (21/30) و أداة طهارة و نقاء: "و ينزل عليكم من السماء ماءا ليطهركم به"(8/11) و مأوى تتخذه الكثير من المخلوقات مسكنا يناسب طبيعتها: "و هو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريا و تستخرجوا منه حلية تلبسونها" "أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم و للسيارة"، يزيد من وعيه في اشتراك هذه الثروة بين كل الخلائق و وجوب تقاسمها فيما بينها جميعا50. إدراكه من جهة أخرى بما للهواء من وظائف حيوية , و"أرسلنا الرياح لواقح" (15/22) يحثه على صيانته و الحرص على صفائه و نقائه، حفاظا منه على الحياة نفسها. فكل ما من شأنه المحافظة على الحياة يعتبر، إلى جانب كونه من المسائل ذات النفع العام و المصلحة الجماعية، أحد مقاصد الشريعة و أبرز أهدافها.  
 

و بالتالي، فيجب على البنوك الإسلامية و مختلف دوائر نفوذها، أن تجتهد في تقييم أثر قراراتها المحتمل على إنشاء العمليات التي تقبل عليها، أو تقوم بتمويلها أو تكفلها، خاصة تلك المتعلقة منها بالاستثمارات التي تمس البنى التحتية والصناعات ذات الصلة باستخراج المناجم.

 

5-1-3 مسؤولية نحو عالم الحيوانات و النباتات

يعتبر القرآن الكريم سائر الأصناف الحية من حيوانات و نباتات، مجتمعات مماثلة للمجتمعات البشرية، مصداقا لقوله تعالى: "و ما من دابة في الأرض و لا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم" 6/38. إن مقارنة الأصناف النباتية والحيوانية بالجنس البشري، تمتد إلى معنى القداسة التي يشتركان فيها بحكم تشابههما في مواضع شتى، منها ما جاء في الآية 18 من سورة الحج: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات و من في الأرض و الشمس و القمر و النجوم و الجبال و الشجر و الدواب و كثير من الناس". فإلى جانب وجود هذه الأصناف لذاتها، فهي مسخرة كذلك لخدمة الإنسانية التي يتعين عليها إذن أن تجيد التصرف فيها و تحسن تسييرها و هي تنتفع بخيراتها.

تشكل الخليقة في تنوعها و تعقيداتها، عالم فسيح من العلامات الواضحة و الإشارات البالغة إلى قدرة الخالق سبحانه و تعالى و حكمته ، و وفير إحسانه وسمو عظمته. إذ يتجلى في قوله تعالى: "يسبح له ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم" الآية 24 من سورة الحشر" "يسبح له ما في السماوات و ما في الأرض" الآية الأولى من سورة التغابن، أن سائر الكائنات المشكلة لهذه الخليقة، على اختلاف أنواعها و تعدد أصنافها، تسلم لله بالقدسية و تنزهه من كل نقص، تعالى عن ذلك علوا كبيرا. يذكر جون بول سارتر في هذا الصدد، ما اشتكى منه الفيلسوف الألماني شوبنهاور حين عاب على المسيحية ما يشوب نظرتها للإنسان من نقائص جوهرية، و تجاهلها البين لحقوق عالم الحيوانات و إصرارها على عدم إقرارها و الاعتراف بها51 .

أما الأمر فعلى خلاف ذلك في الإسلام، كون أن إقامة التوازن و ضمان استمراره بين كافة المخلوقات، من أدق الجسيمات إلى أرحب المجرات52، تتولاه العناية الإلهية بمحكم التدبير وكمال التسيير، متكفلة بضامن أقوات جميع الكائنات الحية، نباتية كانت أو حيوانية، و التي تقوم من جهتها بتأدية الدور المنوط بها وفق المسار الذي حدد لها سلفا53. فالأحاديث النبوية المعروفة لدى غالبية المسلمين، تبين كيف أن جزاء من يسقي كلبا شاردا الجنة، في حين أن جهنم جزاء من تسبب في موت هرة جوعا بفعل حبسه لها و منع الطعام عنها.

فعلى أصحاب القرار في البنوك الإسلامية، ألا يتغاضوا عن مسؤولياتهم و مسؤولية دوائر نفوذهم، عند تقييمهم لأية عملية ذات الأثر المحتمل على معاملات الحيوانات أو على غلات ومنتجات الأرض، و أن يمعنوا تفحصها قبل البث فيها و اتخاذ أي موقف بشأنها.

 

5-1-4 المسؤولية نحو الدائرة الاقتصادية

تقع على عاتق الأشخاص كما تقع على عاتق كل سلطة عمومية، مسؤوليات متعددة و متنوعة فضلا عن كونها مركبة و معقدة. إذا كان الناس في نظر الإسلام، سواسية أمام الله، تجمعهم مساواة صريحة لا يشوبها لبس و لا يعتريها غموض، فإنهم على خلاف ذلك أمام الثروات. لذا يتيح الإسلام إمكانية تسيير الفروقات و التناقضات عن طريق نظام الحماية من جهة و الحث والتحريض من جهة أخرى، كما يدين البطالة و التسول و يشجع على الإتقان في العمل و الإحسان في التصرف: "اليد العليا (تلك التي تمنح) خير من اليد السفلى (التي تأخذ)" فالعمل الجاد و المستمر و الإقبال على أعمال البر و الإحسان، سبيل الإنسان في أن يحيى حياته الدنيا بصفة كلية.فالإسلام يشجع الثروة، حسب ما جاء به القرآن الكريم في هذا المنوال: " و لا تنسى نصيبك من الدنيا"، على خلاف التوجه المسيحي الذي يبجل الفقر ويقدسه.

المسلم مطالب إذن، للاستجابة لهذه المسؤولية الملقاة على عاتقه، بتفضيل المعارف و التقنيات.فليس الإيمان هو الذي يكشف عن الحقيقة، بل على العكس من ذلك، إذ الحقيقة هي التي ترشدنا للإيمان، فبتقصيه الحقائق و الوقوف عند معانيها و إدراك فحواها، يلتقي الإنسان ربه، لأن الإيمان يأتي لاحقا للمعرفة و ليس سابقا لها. لهذا النهج الإسلامي دعوة صريحة و أكيدة للعلم و تشجيعا له. فإدانة البدع لا تنصب على قواعد الحياة المادية بل تشمل فقط تلك المتعلقة منها بالجوانب الطقوسية. إن نص الحكم القاضي ب: "و انتشروا في الأرض" واضح الدلالة على حرص الشريعة الإسلامية على تشجيع كل من النشاط، و الحركة و الواقعية والحسابات الاقتصادية.

يكمل